مجاعة ونزوح وملايين اللاجئين.. تحذيرات من كارثة إقليمية ودعوات لـ"إسكات البنادق" في السودان

في عامه الثالث من الحرب

مجاعة ونزوح وملايين اللاجئين.. تحذيرات من كارثة إقليمية ودعوات لـ"إسكات البنادق" في السودان
نازحون سودانيون- أرشيف

 

كشفت إحصائيات أممية جديدة عن تصاعد غير مسبوق في أزمة اللجوء والنزوح في السودان، الذي يشهد حرباً دامية منذ أبريل 2023، محذّرة من أن أكثر من 4 ملايين سوداني فرّوا إلى الدول المجاورة، في واحدة من أخطر موجات النزوح التي يشهدها العالم حالياً. 

ووصفت الأمم المتحدة هذه الأرقام بأنها تمثل "محطة كارثية في أزمة النزوح الأخطر عالمياً"، مع تحذيرات من تداعيات أمنية وإنسانية تهدد الاستقرار الإقليمي والدولي.

ويرى خبراء سودانيون في شؤون حقوق الإنسان والنزاعات، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذا التصاعد المأساوي في أعداد اللاجئين هو نتيجة مباشرة لاستمرار الحرب، و"تراخي المجتمع الدولي" في التعامل الجاد مع النزيف الإنساني الذي يشهده السودان منذ أكثر من عام.

وأكد الخبراء أن الحل الجذري لا يمكن أن يتم عبر إجراءات إغاثية مؤقتة، بل عبر وقف فوري وشامل للحرب، وضمان عودة الأمن وتأمين المدن والبلدات، مع توفير الخدمات الأساسية من كهرباء، ومياه، وتعليم، وهي خطوات تحتاج إلى دعم دولي عاجل وغير مشروط.

نزوح جماعي 

وبحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، فإن 4 ملايين و3 آلاف و385 شخصاً فروا من السودان إلى الخارج حتى مطلع يونيو الجاري، بينهم 1.5 مليون لاجئ إلى مصر، وأكثر من 1.1 مليون إلى جنوب السودان –من بينهم حوالي 800 ألف لاجئ كانوا أصلاً يقيمون في السودان– وأكثر من 850 ألفاً إلى تشاد، التي تعاني بدورها من تحديات اقتصادية وأمنية حادة.

وفي مؤتمر صحفي بجنيف، قالت المتحدثة باسم المفوضية، يوجين بيون، إن هذا العدد يمثل "نقطة كارثية" في سياق أزمة النزوح العالمية، مشيرة إلى أن استمرار الحرب يعني مزيداً من اللاجئين ومزيداً من الضغوط على الدول المضيفة التي تعاني أصلاً من أزمات مزمنة في البنية التحتية والخدمات.

وفي شرق تشاد، حيث تتركز موجات اللجوء الجديدة، قالت المفوضية إن عدد اللاجئين السودانيين هناك تضاعف أكثر من ثلاث مرات، إذ انتقل من 400 ألف قبل اندلاع الحرب إلى أكثر من 1.2 مليون حاليا، وأوضح دوسو باتريس أهوانسو، منسق المفوضية في تشاد، أن البلاد تواجه "ضغطاً غير محتمل على قدراتها"، خاصة في ظل نقص التمويل وتدهور الخدمات الصحية والغذائية.

وأضاف أهوانسو، متحدثاً من مدينة أمجراس الحدودية، أن شهرًا واحدًا فقط شهد وصول 68.556 لاجئاً إلى محافظتي وادي فيرا وإنيدي، بمعدل يفوق 1400 شخص يوميًا، كثير منهم فرّوا من هجمات عنيفة استهدفت مخيمات نازحين في شمال دارفور، وتعرضوا خلال رحلتهم للقصف ونقاط تفتيش مسلحة وعمليات ابتزاز ممنهجة.

أزمة تتجاوز الحدود

ويرى المراقبون أن أزمة اللجوء السودانية لم تعد أزمة محلية أو إقليمية فحسب، بل تحوّلت إلى تهديد عابر للحدود، له تبعات على الأمن الإقليمي، وعلى أوضاع الهجرة العالمية.

كما يحذر محللون من أن استمرار تجاهل المجتمع الدولي للأزمة سيُفاقم من احتمالات انزلاق دول الجوار، خصوصاً تشاد وجنوب السودان، إلى عدم استقرار مزمن نتيجة الأعباء السكانية والاقتصادية والأمنية التي فرضها النزوح الجماعي.

ويؤكد خبراء حقوق الإنسان أن المعالجة الحقيقية لأزمة اللجوء لا تكمن في إدارة النزوح أو احتوائه، بل في إنهاء أسبابه، إذ يقول الدكتور جمال محمد، أستاذ القانون الدولي في جامعة الخرطوم، إن "ما يحدث الآن في السودان يعكس عجزاً دولياً في فرض وقف إطلاق النار وتحقيق المساءلة عن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين"، مضيفاً أن "إطالة أمد الحرب هي إطالة لأزمة اللاجئين، ويجب على المجتمع الدولي أن يتوقف عن سياسة الانتظار والتنديد اللفظي ويتجه نحو إجراءات ملزمة ومباشرة".

فيما أكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين أن هناك "حاجة ملحة" لأن يعترف المجتمع الدولي بحجم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يعاني منها السودان، وأن يعمل فوراً على وقفها، محذرة من أن استمرار تجاهل تلك الانتهاكات سيؤدي إلى انهيار أوسع للأوضاع الإنسانية في البلاد.

وحذرت المفوضية من أن تقديم المساعدات الإنسانية "بالحجم والسرعة المطلوبين" يظل مستحيلاً "دون زيادة كبيرة في التمويل"، مشيرة إلى أن الموارد الحالية لا تكفي لمواجهة التحديات الهائلة على الأرض.

السودان بين نارين

وبينما يستمر النزاع المسلح للعام الثالث على التوالي، بات السودان منقسماً جغرافياً بين الجيش الذي يسيطر على الشمال والوسط والشرق، وقوات الدعم السريع التي تسيطر على أجزاء واسعة من دارفور والجنوب، وهذا الانقسام لم يكن سياسياً فقط، بل انعكس على المدنيين، الذين باتوا يدفعون الثمن الأكبر من جوع ومرض ونزوح قسري.

والحقائق القادمة من الداخل أكثر فداحة مما تظهره الإحصاءات، فقد أعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في أبريل الماضي وفاة أكثر من 45 ألف طفل جراء سوء التغذية، في ظل انهيار منظومة الصحة ونقص الغذاء وانعدام الوصول إلى المساعدات.

وفي تقرير حديث، أوضحت منظمة "اليونيسف" أن عدد الأطفال المحتاجين للمساعدات الإنسانية تضاعف خلال عام واحد فقط، من 7.8 مليون في بداية 2023 إلى أكثر من 15 مليون طفل حاليًا، في واحدة من أكبر أزمات الطفولة على مستوى العالم.

وأشارت المنظمة الأممية إلى أن النزاع أدى إلى تهجير ما يقارب 15 مليون شخص داخل وخارج السودان، أكثر من نصفهم من الأطفال، وثلثهم تقريبًا دون سن الخامسة. 

وتوقعت تقارير الأمم المتحدة الأخيرة أن تتفاقم الأزمة الإنسانية إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة، مؤكدة أن "العنف المتزايد، والجوع، وانتشار الأمراض، واستمرار التهجير، كلها تُنذر بكارثة أكبر قد يصعب احتواؤها لاحقًا".

إسكات البنادق

من جانبها شددت هالة الكارب، المديرة الإقليمية لمبادرة "نساء القرن الإفريقي (صيحة)"، في تصريح لـ"جسور بوست"، على أن "اللاجئين لن يعودوا إلا إذا توفّر الأمن، وتم تأمين المدن والبلدات، ونزع السلاح من الميليشيات، وتوفير خدمات أساسية مثل الكهرباء والمياه والتعليم".

وأوضحت هالة أن "سياسات اللجوء حول العالم تغيّرت، ولم تعد دول الجوار قادرة على الاستيعاب في ظل أوضاعها الصعبة، ما يفرض حلاً داخلياً سودانياً بدعم دولي مباشر".

كما دعت إلى تسهيل عودة المهاجرين بتقديم حوافز وتسهيلات، والسماح بمرونة أكبر في حركة المنظمات الإنسانية للوصول إلى المناطق المتضررة.

وبدوره قال الحقوقي السوداني المتخصص في شؤون النزاعات صالح عثمان، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن الأرقام الرسمية "لا تعكس الحجم الكامل للمأساة"، مشيرًا إلى أن العدد الحقيقي للنازحين واللاجئين داخليًا وخارجيًا يتجاوز 15 مليون شخص، فيما يوجد أكثر من 26 مليونًا مهددين بالجوع ونقص الغذاء.

وأكد عثمان أن الحاجة للمساعدات الإنسانية باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، في ظل تراجع الأوضاع الأمنية وتزايد الاعتداءات، خاصة في مناطق مثل تشاد، التي تؤوي أعداداً متزايدة من اللاجئين السودانيين وتواجه صعوبات أمنية واقتصادية متراكمة.

ووجه صالح عثمان الشكر للدول التي استقبلت اللاجئين السودانيين، وعلى رأسها مصر وأوغندا وتشاد وإثيوبيا وليبيا، مثمنا الدعم الإنساني المقدم من دول خليجية مثل السعودية والكويت.

لكنه في الوقت نفسه انتقد المجتمع الدولي على "تقصيره الصارخ في الاستجابة لحجم الكارثة"، مشيراً إلى أن المساعدات حتى الآن "أقل بكثير مما هو مطلوب" بالنظر إلى خطورة الوضع.

ولم يخفِ عثمان انتقاده لمواقف المنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي، مؤكدًا أن هذه المؤسسات مطالبة بـ"مواقف أكثر جرأة وفاعلية"، وليس مجرد بيانات شجب وتنديد، داعيًا إلى إعادة تقييم أداء هذه المنظمات في التعامل مع الأزمة السودانية، باعتبار أن السودان دولة محورية في محيطها الإقليمي.

واختتم عثمان تصريحه بالقول: "إنهاء الحرب يجب أن يكون أولوية قصوى الآن.. لا تنمية ولا عودة ولا استقرار من دون إسكات السلاح أولا".

وأمام الكارثة الإنسانية المتفاقمة في السودان، ومع تضاعف أعداد النازحين واللاجئين، تبدو الأصوات الدولية خافتة وغير متناسبة مع حجم المأساة، إذ تحولت البلاد إلى ساحة مفتوحة للجوع والنزوح والانتهاكات، بينما تستمر الحرب في تمزيق ما تبقى من مؤسسات الدولة وأحلام الشعب السوداني بالاستقرار.

ورغم الجهود المحدودة التي تبذلها بعض الدول والمنظمات، فإن غياب موقف دولي موحد وحازم لوقف الحرب وتقديم الدعم الإنساني العاجل يُنذر بكارثة إنسانية إقليمية ذات أبعاد خطيرة، حيث يحتاج السودان، اليوم، ليس فقط إلى مساعدات عاجلة، بل إلى إرادة دولية حقيقية تنقذه من الانهيار الكامل، وتعيد له بوصلته نحو السلام والاستقرار والكرامة الإنسانية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية